لا يقوى أحمد قم (21 عاما) على النهوض من سريره الخشبي المتواضع في بيته ببلدة بنان، قرب مدينة المنستير الساحلية، بعد أن فقد خصيته اليسرى جراء ما قال إنّه تعذيب شديد تعرض له أثناء اعتقاله في نهاية الشهر الماضي عقب موجة احتجاجات.
داخل غرفته التي تنبعث منها رائحة رطوبة شديدة، وتبعثرت فيها ملابس وأوان قديمة، لا تتوقف دموع أحمد وهو يروي لرويترز كيف “كان أفراد من الشرطة يتلذذون بتعذيبه وحرق خصيتيه بولاعة بعد أن نزعوا سرواله في منطقة للحرس بالمنستير”.
وأحمد، الذي يقول إنّه فكر في الانتحار في المستشفى بعد أن علم أنه فقد خصيته، هو واحد من عشرات الشبان ممن اشتكوا من تعذيب وسوء معاملة في مراكز الاحتجاز عقب الاحتجاجات الأخيرة في البلاد والتي تخللتها أعمال شغب وسرقة، واعتُقل خلالها ما يزيد على 1600.
ورُفعت خلال الاحتجاجات المتكررة منذ شهر مطالب بتنحي الحكومة، كما رفع المحتجون شعارا طالما أزعج الحكام هنا وهو “الشعب يريد إسقاط النظام” وهو الشعار الذي تردد أثناء ثورة تونس التي أطاحت بنظام حكم البلاد بقبضة من حديد، وألهمت انتفاضات الربيع العربي.
ويُنظر إلى تونس على نطاق واسع على أنها قصة النجاح النسبي الوحيدة لثورات “الربيع العربي” في عام 2011، وذلك لتقدمها الديمقراطي.
وحرية التعبير والتظاهر مكسب رئيسي من ثورة 2011 التي أنهت الحكم الاستبدادي للرئيس الراحل زين العابدين بن علي، وأهدت التونسيين حرياتهم.
لكن الاتهامات بسوء المعاملة والتضييق على المحتجين والتعذيب أحيانا في مراكز الاحتجاز تثير مخاوف منظمات حقوقية محلية وخارجية من عودة الدولة البوليسية وقمع حرية التعبير والتظاهر.
واستنكرت وزارة الداخلية الاتهامات، وقالت إن جهاز الأمن يتطور بثبات ويشهد إصلاحات جذرية منذ عشر سنوات ويحسن الملاءمة بين فرض القانون واحترام الحقوق والحريات. وطالبت من يدعى التعرض لانتهاكات بالتقدم إلى القضاء.
ووثقت الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان “انتهاكات جسيمة” قالت إنها شملت التعذيب والمضايقة والضرب والتهديد بالاغتصاب للمحتجزين ضمن موجة الاعتقالات الأخيرة التي شملت عددا كبيرا من الأطفال.
وبينما بدأت الاحتجاجات الشهر الماضي باشتباكات وأعمال شغب في أحياء فقيرة تعبيرا عن الغضب من انعدام المساواة، يتزايد تركيزها الآن على المطالبة بإطلاق سراح المعتقلين وعلى إساءة معاملة محتجزين، وهو ما تنفيه السلطات.
رانية العمدوني، وهي ناشطة تشارك تقريبا في كل الاحتجاجات بالعاصمة تونس، تقول إنها ملاحقة من عناصر أمنية بالزي المدني ومن عناصر نقابية ترابط أمام بيتها سعيا لاعتقالها فقط لأنها تشارك في الاحتجاجات.
وتقول هذه الشابة، التي تنتقد السياسات الحكومية الاقتصادية والاجتماعية، إنها غادرت بيتها وتحتمي في مكان آخر خشية الاعتقال والتنكيل بها كما حصل مع نشطاء آخرين.
لكن العميد جمال الجربوعي الناطق الرسمي باسم الاتحاد الوطني لنقابات قوات الأمن التونسي قال إنه يرفض “شيطنة المؤسسة الأمنية” التي هدفها حماية الأمن العام واحترام الحقوق والحريات التي يكفلها الدستور.
وقال لرويترز “تحصل بعض الأخطاء الفردية أحيانا ولكن المؤسسة الأمنية تتطور وتعمل بجد. ونحن نسعى لتطوير عملنا ونتمسك بضبط النفس رغم استفزازات المحتجين للشرطة”.
وأضاف أنه بمقارنة تعامل الأمن الفرنسي مع احتجاجات السترات الصفراء بتعامل الشرطة التونسية مع الاحتجاجات الأخيرة، يظهر مدى التطور في أداء الشرطة التونسية.
أحمد الذي يواجه اتهامات بسرقة متجر أثناء الاحتجاجات في منطقة بنان وينفي الضلوع فيها، يقول إن معاملة الشرطة له كانت وحشية.
قال أحمد لفريق رويترز بينما كانت دموعه تنهمر دون توقف “لقد عاملوني بوحشية أشمئز حتى عندما أحدثكم عنها. لقد كبلوا يدي ووضعوا عصا خشبية بين رجلي وعلقوني بين طاولتين وبدأوا تعنيفي في كل مكان من جسدي”.
وأطلق سراح أحمد مؤقتا بسبب وضعه الصحي، بعد شهادة طبية تمكنت رويترز من الاطلاع عليها وتشير إلى استئصال خصيته.
وتأكدت رويترز أيضا من مستشفى سهلول بسوسة من صحة رواية أحمد باستئصال خصيته.
يضيف أحمد “لم يرحموا ضعفي وألمي.. نزع أحدهم سروالي بعد ذلك وأخذ ولاعة وأشعلها تحت الخصيتين عدة مرات. لقد كنت أصرخ من شدة الألم ولم يأبهوا لذلك. استمروا في تعذيبي لأكثر من ساعة ونصف”.
وعقب الحادثة قرر قاض بمحكمة المنستير فتح تحقيق في التعذيب.
ويوم الجمعة قالت المحكمة إن القاضي وجه استدعاء لثلاثة أشخاص لسماعهم يوم الاثنين المقبل بعد أن قام بتحديد هوية ثلاثة أشخاص كانوا مع الشاكي أحمد قم.
لكن سلمى الشايب، والدة أحمد، تقول إنها لن تقبل سوى بحق ابنها وسجن من عذبوه حتى يخمد لهيب ألمها قليلا.
ورفض متحدث باسم وزارة الداخلية التعليق على الحادثة قائلا إنه لا يمكنه التعليق على قضية ينظرها القضاء.
وتقول سلمى لرويترز بينما كانت تجلس على كرسي بلاستيكي قرب ابنها لتساعده على الحركة، إنّها كانت تنتظر أن تمنح الثورة الكرامة لأبنائها في ظل فقر مدقع تعانيه العائلة إلا أن الدولة كافأتهم بالتعذيب والإهانة والقهر.
وتضيف سلمى، التي تجاهد لتوفير لقمة العيش وتبيع منتجات غذائية تقليدية وأحيانا مواد تنظيف تعدها في البيت، “هذه الدولة ظالمة لا تقدر إلا على الفقراء.. كيف سيعيش ابني؟ لقد حطموا مستقبله. هل لا يزال قادرا على الإنجاب؟”
الانتهاكات المزعومة أعادت إلى أذهان النشطاء القبضة الحديدية والنظام البوليسي الذي استخدمه الرئيس الراحل زين العابدين بن علي لتهديد معارضيه ووأد أي تحركات اجتماعية أو سياسية قبل أن تطيح به احتجاجات حاشدة.
وقال منذر الشارني، كاتب عام المنظمة التونسية لمناهضة التعذيب، إن المنظمة رصدت عشرات من حالات التعذيب وسوء المعاملة في مراكز الاحتجاز، بما في ذلك ضد القصر.
وأضاف “الانتهاكات الفظيعة التي حدثت هذه المرة كانت نادرة منذ الثورة”.
وقالت رويترز إنّه منذ 2011 ركزت القوات الأمنية جهودها بشكل خاص على مقاومة المجموعات الإرهابية ونجحت في الحد من خطورتها في السنوات الأخيرة خصوصا. ويرى مراقبون أن سجل الشرطة في مجال حقوق الإنسان أصبح أفضل مما كان في الفترة التي سبقت الثورة.
لكن عودة ارتفاع نسق انتهاكات الشرطة خصوصا في الفترة الأخيرة ينظر إليه نشطاء على أنه جرس إنذار يستوجب الاصطفاف للدفاع عن الحريات.
يرى هؤلاء الشبان المحتجون ونشطاء أن الانتهاكات التي حصلت لن تثنيهم عن مواصلة الاحتجاج والسعي إلى مستقبل أفضل.
وقال حمزة نصري، أحد الشبان الذين اعتقلوا على خلفية المشاركة في احتجاجات بالعاصمة، إنه لاقى معاملة سيئة طيلة ثلاثة أيام من الاحتجاز، ولم يقدم له الأكل خلالها لأنه كان يُنقل يوميا إلى مركز احتجاز بالمحكمة حيث يقضي وقتا طويلا قبل إعادته إلى مركز الاعتقال بعد فوات موعد تقديم الطعام.
لكن حمزة تعهد بأن الانتهاكات التي حدثت معه ومع عشرات آخرين، لن تنجح في إخماد أصوات المحتجين الذين يريدون واقعا جديدا ويطمحون لمنظومة سياسية جديدة تقطع الصلة مع الماضي، معتبرا أن ما حصل بعد الثورة هو سطو لمنظومة فاسدة على الثورة.
وقالت آمنة القلالي، مديرة منظمة العفو الدولية لشمال أفريقيا إن المنظمة وثقت عدة حالات انتهاكات جسيمة، وتعتقد أن انتهاكات الشرطة خلال الاضطرابات الأخيرة كانت منتشرة على نطاق واسع.
وأضافت “ثبت بوضوح أن هناك انتهاكات واسعة النطاق رافقت تصدي الدولة والأجهزة الأمنية” للاحتجاجات.
وفي مدينة القصرين المهمشة والتي شهدت ذروة الاحتجاجات ضد بن علي أيضا قبل عشرة أعوام، اشتكى محمد هداية البناني من سوء معاملة وتعذيب تعرض له أثناء احتجازه.
وقال إنه اعتقل بسبب مواقفه من الوضع السياسي والاجتماعي على فيسبوك.
وأضاف لرويترز “لم أكن أتخيل أن يحصل ما حصل لي. لقد اقتحم عشرة أعوان بيتنا واقتادوني إلى مركز أين تعرضت لمعاملة قاسية ونكلوا بي وضربوني بشدة وكالوا لي تهما وكلاما غير لائق”.
وأضاف محمد، الذي قال إنه حصل على شهادة طبية تثبت ما تعرض له من ضرب، أن مديرا أمنيا هو من ضربه.
وذكر أن القاضي برأه من اتهامات بالتحريض على الأمن، لكنه مازال يتعرض لمضايقات وتهديدات. ويضيف “هل هذه دولة الحقوق. أين الحريات؟ لن يرهبوني… مازلت تحت هول الصدمة. تخيلوا لقد نزعوا كل ملابسي وصوروني عاريا”.
وسمحت السلطات التونسية لمنظمات ولجنة برلمانية بزيارة مراكز الاحتجاز.
لكن ليلى الحداد، النائبة في البرلمان عن حزب الشعب، قالت إن الزيارات كانت كأنها بروتوكولية ولا تعبر عن حقيقة الوضع في مراكز الاحتجاز. ووصفت رئيس الحكومة هشام المشيشي بأنه نتاج منظومة بن علي القمعية.
(رويترز)