بقلم الأمين الشابي
بداية اعتبر أنّ كلّ عمل درامي يسيل كل هذا الكم من الحبر و كل ردود الفعل هذه، خاصة على مستوى منصات التواصل الاجتماعي، هو عنوان لنجاح هذا العمل أو ذاك و لا نكسة له، بقطع النظر عن الجرأة التي يتناول بها مواضيعه. بل دعني أقول و أنّه من المفارقات العجيبة و الغريبة – التّي لا تطمئن أبدا – و أنّه بقدر ما يثير هذا المسلسل أو ذاك ردود فعل بقدر الإصرار على متابعة و مشاهدة مثل هذه المسلسلات من قبل الأغلبية، و بالتالي لا أجد من تفسير لمثل هذه الازدواجية، إلاّ لوجود خلل ما في تفكيرنا خاصة عند إعطاء رأينا في عمل درامي جهرا و متابعه كلّ أحداثه و بكل شغف سرّا؟
النخب تلعن و المواطن يصطف
عندما أقرأ ، و اكتفي هنا، برأي أحد نخبنا الذي يعتبر ” أنّ مسلسل ” براءة ” الذي تبثّه هذه الأيام قناة الحوار التونسي، يسعى إلى التطبيع مع مبادئ خطيرة جدّا على المجتمع التونسي و يرى – في هذا المسلسل – و أنّ الدين هو الرابط الوحيد في العلاقات الاجتماعية و الأسرية، و ذلك حسب التوجه الإخواني و الداعشي، خلافا للعلم و البداغوجيا و القانون… مع تبرير الزوج العرفي باعتباره مقبولا دينيا، علاوة عن القراءة المتخلفة للدين الإسلامي في هذا المسلسل، فأنّه يدعو صراحة إلى مخالفة القوانين الجارية في تونس و خاصة مجلة الأحوال الشخصية ”
هذا رأي أحد نخبنا في هذا المسلسل، فما بالك في رأي المواطن العادي الذي يبدو هو الآخر اصطف وراء ما يكتب من آراء على منصات التواصل الاجتماعي ليكيل هو أيضا لهذا العمل الدرامي ” ما يستحق ” من الركل و اللكم و الخنيفري ” خاصة و نحن في الحلقات الأولى لهذا المسلسل.
المسلسل مرآه تعكس عيوب المجتمع
في الحلقات الأولى تناول مسلسل ” براءة ” مواضيع مجتمعية مختلفة منها موضوع الإرهاب و الزواج العرفي و الطبقية في المجتمع و استغلال النفوذ و الدوس على الآخر فضلا عن براءة ذلك الطفل الذي اعتبره الموضوع الأصلي للمسلسل و الذي ستدور حوله الأحداث مستقبلا. لكن الغريب في الأمر، في بعض ما قرأته من آراء الناقدة لهذا المسلسل، و أنّ جلّ الآراء تدين بالخصوص تناول ” الزواج العرفي ” و كأنّ المسلسل – حسب ما فهم البعض – يروّج لمثل هذا النوع من الزواج. في حين بقراءة أكثر عمق، فإنّ المسلسل يشير إلى قضية استفحال ظاهرة الزواج العرفي و يدّق بالتالي ناقوس الخطر بل أقول و أنّ هذا المسلسل له من الجرأة أن عكس عيوب مجتمعنا و أشار بكل جرأة لمثل هذه الآفات المسكوت عنها رغم وجودها فعليا في مجتمعا. بل هؤلاء، الذي شحذوا سكاكينهم، غضوا النّظر عن المظاهر الأخرى التي تناولها المسلسل على غرار استغلال المعينات المنزلية و الدّوس على الآخر و استعمال النفوذ للحصول على منافع غير مشروعة على غرار رخص ” التاكسيات ” و انحراف الشبيبة و غيرها، و لم يشدّ هؤلاء إلاّ موضوع الزواج العرفي و بالتالي أرى و أنّ الاهتمام بهذا الجانب فقط من المواضيع الكثيرة الذي طرحها المسلسل في حلقاته الأولى دليل واضح على توجه تفكيرنا إلى عقدة داخلية نرغب في تحقيقها لو تتاح لنا الفرصة في السرّ و نمقطها جهرا لنظهر و أنّنا من المدافعين على المدنية. و هذا لا يعني أنّي مع هذا النوع من الزواج المهين لكرامة المرأة و الذي يمثل خروجا على قوانين الدولة المدنية.
لننتظر قليلا لنحكم له أو عليه
بداية بماذا نفسر تواصل قناة الحوار التونسي في اليوم الرابع من شهر رمضان تصدر القنوات التلفزية الأكثر مشاهدة بنسبة قياسية تجاوزت 46 بالمائة وبفارق كبير على الوطنية الأولى التي احتلت المرتبة الثانية بنسبة مشاهدة 28 بالمائة. وحاز مسلسل الفوندو على نسبة مشاهدة كبيرة تجاوزت 41 بالمائة حسب إحصائيات ميديا سكان وحقق مسلسل براءة نسب مشاهدة عالية تجاوزت 30 بالمائة. هذا المعطى الأوّل أ لا يدّل على مدى تعلق المتقبل على مثل هذا النّوع من المسلسلات بالرغم من كلّ النقد الموجه لها. و ثانيا لماذا نتسرّع في اصدار الأحكام المسبقة و لا ننتظر نهاية المسلسل و عندها نبدي الرّأي على أساس المنطق و العقلانية و النقد الذي يبني و لا يهدم و نبيّن نقاط قوّة هذا المسلسل أو ضعفها حتّى يستفيد القراء من رأي تقييمي صحيح بعيدا عن الأحكام المزاجية.
و اعتقادي لو كان هذا المسلسل مصريا أو تركيا و تناول مثل هذه المواضيع و بأكثر جرأة لنال استحسان بعض النقاد و صفقوا له باعتبار جرأته و اقدامه على كشف المستور بلا خوف و لا ترددّ و لربما وضعوا تساؤلا مفاده أين الدرامة التونسية من تناول مثل هذه المواضيع و بمثل هذه الجرأة و الشجاعة و ربما أكالوا لهذا القطاع كل النعوت من الخوف إلى الكسل و مرورا بتسلط هيئة الرقابة على الأعمال الفنّية و بالتالي لجم الفنان التونسي من تناول المواضيع الحارقة و المسكوت عنها؟
مرحبا بأي عمل درامي يزيح أقنعة المجتمع
ختاما، أقول و أنّ النقد وسيلة ناجعة و لا بدّ منها لتقييم أي عمل فنّي مهما كانت قامة الممثلين المتقمصة للأدوار فيه و مهما كان صاحب العمل و مهما كانت القناة المنتجة له سواء عمومية أو خاصة، فبالنقد نتبين الغث من السمين و المسلسل الهزيل من الأعمال الجادّة التي تعمل على نحت المجتمع و ترتفع بذوقه و لكن فقط لا بدّ من تشجيع كلّ من يعمل و يجتهد بعيدا عن بعض النّوايا الخبيثة التي لا تعمل و لا تترك من يعمل. و بالتالي لنترك الجميع يقوم بدوره، الفنان يبدع و الناقد ينقد و المشاهد له الحرّية التّامة في يراه من المسلسلات أو المنوعات فالأذواق تختلف و لكن فقط دور الناقد هو العمل بموضوعية عند حكمه على هذا العمل أو ذاك على أسس علمية و موضوعية.