نزيهة التواتي
أجيال وأجيال تربت على قصيدة الشاعر أحمد شوقي والتي قال فيها مقدسا المعلّم والمربي: ” قُمْ لِلْمُعَلِّمِ وَفِّهِ التَّبْجِيْلَا — كَادَ الْمُعَلِّمُ أَنْ يَكُوْنَ رَسُوْلًا “.
فالمعلم كالرسول في إنارة طريق الأمة وبناء الأجيال المثقفة التي تخدم المجتمع، والمعلم هو المربّي وغارس الأخلاق، وهو المُهذّب لنفوس تلاميذه وهو من يفتح عيون الجيل الصّغير نحو المستقبل.
فطالما كان للمعلم حق التقدير لما يقدمه في مسيرتهم العلمية والتربوية من أجل بناء مستقبل أفضل للأجيال والأوطان، فما ارتفع وطن إلا برفعة مكانة معلميه.
لكن في زمننا الحاضر نلاحظ تغييرا في المعطيات وانقلاب في المفاهيم و يرى البعض ان المعلم فقد “بريقه” و”حقه” في الاحترام والتقدير.
وأصبح المعلم يتعرض للعنف والإهانة وحتى الى محاولات القتل ، كما حدث لأستاذ التاريخ والجغرافيا بمعهد ابن رشيق بمدينة الزهراء من ولاية بن عروس، والذي تعرض الى اعتداء وصف ب”الشنيع” من قبل تلميذ من مواليد 2004، حيث عمد الى ضربه بآلة حادة على مستوى الرأس وتسديد طعنات في مختلف جسمه.
حادثة هزّت الرأي العام ورجّت المجتمع ودقت ناقوس الخطر..
فهذه الحادثة ليست الأولى التي تطال رجال التعليم في بلادنا وربما لن تكون الاخيرة فقد تعددت الاعتداءات وتنوعت ضد أصحاب “الميدعة البيضاء” فأصبح المعلم الذي قال عنه الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام “إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرَضِينَ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ” ، أصبح يهان .. ويعنف.. وقتل.. ، فمن المسؤول؟؟؟
تنامي ظاهرة العنف الإجرامي في تونس
ففي تونس تزايد منسوب العنف بشكل ملفت منذ 2011، إذ تصاعدت أشكال العنف الّلفظي والمادي، في جميع أوساط المجتمع التونسي وبين مختلف مكوناته .
وفي أحد تقاريره حول نسب العنف في البلاد، أكد المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية ارتفاع العنف الإجرامي سنة 2020 بنسبة تزيد على 63 في المائة عما كانت عليه عام 2019.
ويتصدّر هذا النمط من العنف المتمثل في القتل، والاعتداءات، والسرقات، والتعنيف، الأنواع الأخرى المسجلة في تونس، ويليه العنف الانفعالي ثم الجنسي.
والفضاء المدرسي كما يصفه البعض من الخبراء الاجتماعيين هو نسخة مصغرة من المجتمع لذلك فهو معني بدوره بارتفاع هذه النسب في الإجرام، فقد نادت نقابات التعليم الأساسي والثانوي في العديد من المناسبات وحذرت من استفحال هذه الظاهرة في المؤسسات التربوية التي أصبحت مباحة ويدخلها الغرباء للاعتداء على المربين و الأساتذة والمديرين باستعمال الأسلحة البيضاء و الزجاجات الحارقة إضافة الى العنف المادي و اللفظي و اقتحام قاعات الدرس و السطو عليها و تهديد الأساتذة بالسواطير.
فهذه الممارسات تكررت باستمرار ونددت بها نقابات التعليم لكن الى اليوم لم يقع التصدي اليها بجدية واتخاذ تدابير صارمة فيها لحماية الفضاء التربوي وإعادة قيمته وقدسيته التي دنستها هذه الاعتداءات والسلوكات اللاأخلاقية.
علاقة صدامية.. المعلم ينظر للتلميذ وعاء معلومات
وأرجعت الأخصائية في علم الاجتماع لطيفة التاجوري لموقع “الجريدة” أن تنامي ظاهرة العنف في الفضاء المدرسي وضد المعلمين تعود الى عدة أسباب أهماها أن العلاقة بين المعلم والتلميذ لم تعد كما كانت من قبل ، “ذلك ان المدرسة في السابق كان لها دور التربية والتعليم لكن اليوم لم تعد كذلك الأمر الذي جعل من علاقة التلميذ بالمعلم أصبحت مجرد معلومات”، وهو ما يؤثر على العلاقة الاجتماعية بينهما.
فالمعلم ، حسب تعبيرها، أصبح يرى التلميذ مجرد وعاء لمعلوماته بينما المراهق يحتاج الى الثقة والى الاعتراف بوجوده كانسان وهي مشاعر ضرورية لتكوين علاقة وطيدة بين الطرفين لكن مع انتفائها تصبح العلاقة صدامية.
فالأطفال والمراهقين، حسب الدكتورة التاجوري لهم خصوصيات وجب على المعلمين التمكن من معرفتها والتعامل على أساسها مشددة على غياب التكوين في ال”جانب النفسي “لدى المعلمين وهو ما يزيد في توتر العلاقات بين عدد منهم وعدد من التلاميذ.
كذلك غياب برامج الرعاية النفسية في الوسط المدرسي فتونس ، حسب تعبيرها، من الدول القليلة التي ليس لها خطط وقائية لمقاومة الجريمة.
وحمّلت محدثتنا الدولة المسؤولية الأولى في انتشار هذه الظاهرة داعية الى ضرورة تقديم مقاربة شمولية للتصدي للجريمة ومعالجة الظاهرة حدوثها وانتشارها وعدم الاحتكار على التعامل مع الجريمة بالمقاربة الأمنية وذلك من خلال الدوريات الأمنية والمقاربة القانونية وذلك بالمحاكم والعقاب.
فسياسة الدولة لمكافحة الجريمة في الوسط المدرسي تكاد تكون غائبة لذلك عليها ان تأخذ بزمام الامور وتجمع كل القطاعات على طاولة حوار وتقوم بخطة حول “كيفية وقاية الجيل القادم من الجريمة في مختلف مراحلها.
غياب الأخلاق
ومن جهة أخرى يرى البعض أن غياب الاخلاق من اهم الأسباب التي زادت في انتشار الجريمة و ارتفاع ظاهرة العنف خاصة في الوسط المدرسي وضد المعلمين.
ذلك أن للأخلاق والقيم أهمية كبيرة في تحقيق نوع من الاستقرار الاجتماعي، فإذا ضعف الالتزام الخلقي بين أفراد المجتمع، بدأت المتاعب والاضطرابات السلوكية.
فالأخلاق أساس صلاح الأفراد فإذا صلح الأفراد صلح المجتمع والأمة، وكما قال الشاعر احمد شوقي “إنما الأمم الأخلاق ما بقيت…فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا..”، وللأسف فنحن نلاحظ أن “ذهاب الأخلاق وغيابها” شبح يحوم حول مجتمعنا ويهدد أجيالنا القادمة، فقد أصبحنا نرى المعلم الذي طالما كان مثل الوالدين ومن حقه التعظيم والتقدير لقيمته الكبيرة في حياة الكثيرين، يُضرب ويُهان .. وهو ما يجبرنا على القيام بوقفة تأمل وإعادة توزيع أوراق أولوياتنا وجعل الأخلاق من أهم قيمنا ..حتى لا نفقد السيطرة على المجتمع ويصبح كل محظور مباح و ونعلن الحداد على الأخلاق وكما قال أحمد شوقي
“هو مأتم الأخلاق فاتل رثاءها
وتول أسرتها ووال عزاءها”