صهيب المزريقي
قد لا نخطئ لو قلنا أن الإنسان كائن العقل و لسنا مخطئين أيضا لو سمينا الفكرة أنها العقل و من هذه المسلمات يصح لنا تسمية الإنسان بالكائن الآيديولوجي سواء ورث أفكاره و عقائده من الفعل التواتري لمن سلفه أو من جملة الإقرارات المتراكمة لتبني بذلك عقلا تراثيا صيغ و هيكل بفعل قوة الحضارة و تأثيرها على الإنسان ليكون الأخير متقولب و متطابق ومستمر في التاريخ، أو عبر صورة عصرية يكون فيها بناء العقل عبر الآيديولوجيا التي يكتسبها الإنسان بفعل البحث و المعرفة والجدل مع الأفكار الحديثة و المعاصرة لتكون بذلك ضربا جديدا لعقل مفكر داخل قالب و صندوق الفكر الذي يتبناه و من زاوية نظر ما رآه إما شيخ العقيدة و مفسرها أو منظر الفكر . و بالتالي نقع في منطق إستلاب الإنسان و إغترابه بأن يصبح ملكا لغيره في شكل عبودية فكرية لحضارة ما أو لتصور ما وبالتالي يصبح يتحرك على ضوءه ويسعى أن لا يجاوز تلك الخيوط الوهمية بنسيج خيالي وهلامي متجاوز الزمن إما بالرجعية التاريخية أو الظرفية المكانية ليؤسس لإسقاط مجحف خارج الشروط الموضوعية للإنسان فيجعله خارج الزمكان . لكن السؤال الذي طرحه المفكرين العرب على غرار محمد عابد الجابري و جورج طرابيشي و الطيب التيزيني وهشام جعيط و غيرهم في إطار الإستفسار العام عن إشكالية العقلانية في العقل العربي و التأسيس لمرتكزات نهضاوية عربية علمية وهو الى متى يظل الإنسان مستلبا ؟ و كيف يتحرر من سجن الآيديولوجيا ؟؟ و هل من سبيل لعقلنتها؟
إن العقلانية كمذهب فلسفي ينطلق من كون العالم بنوعيه؛ الميتافيزيقي والمادي، لا يمكن إدراكه إلا بالعقل وحده، باعتباره الأداة الرئيسة للمعرفة. والعقلانية أيضا مذهب قديم في البشرية، يبرز أشـد ما يبرز في الفلسفة اليونانية وخاصة عند سقراط وأرسطو. ولقد بقيت هذه الفلسفة مؤثرة في الفكر الأوربي زمنا ليس بالقصير، حتى ظهرت المسيحية فغيرت مجرى ذلك الفكر تغييرا جذريا؛ حيث أبعد العقل وحل محله المنطق الكاثوليكي الكنسي بأغلاله وقيوده. وقد تمخض هذا المذهب في العصور الحديثة، عن الصراعات الفكرية والعقدية التي رافقت تطور الفكر الأوربي منذ عصر النهضة. والعقلانية تمثل أحد الأسس التي قامت عليها الحضارة الأوربية، كما شكلت الوقود الأساسي للثورات الصناعية والاجتماعية والسياسية ،وترتـبـط العقـلانية الأوربية تاريخيا بالفيلسوف الـفـرنـسي “ديكارت”. وكان الفيلسوفان “سبينوزا” و”ليبنز” من أشد دعاتها المتحمسين لها. ولقد حاول الفيلسوف “كانت” التصدي لها وانتقدها في كتابه “نقد العقل الخالص”، إلا أنها انتعشت من جديد بفصل ازدهار “مدرسة هيجل”، في النصف الأول من القرن التاسع عشرالميلادي. إن العقلانية، من هذا المنطلق، فلسفة غربية، صاحبت قيام وتطور البورجوازية و الرأسمالية في الغرب. ثم انتقلت إلى العالم. وإذا كانت في ميدان العلوم قد ظلت تتقدم، وبلا توقف، فإنها في ميدان الفلسفة والسياسة، شهدت تحولات وتقلبات كبيرة. و إذا ما سلمنا بأن العقلانية مطلوبة بل هي ضرورة ملحة الإنسان العربي اليوم في إطار قراءته لتراثه أو فهمه و إستعابه لحاضره و إستقراءه لمستقبله أعتقد أن خير من شخص و شرح العقل العربي تشريحا علميا في رباعيته نقد العقل العربي مستنتجا جملة من الحلول الفلسفية و النفسية وهنا يسعني أن أستعرض جملة من مقولات الدكتور والمفكر محمد عابد الجابري و التي يدعو فيها إلى العقلانية، والتي لا تخلو من الروح الاستغرابية.
«ينبغي إعادة كتابة تاريخنا الثقافي بصورة عقلانية وبروح نقدية… والتعامل العقلاني النقدي مع تراثنا يتوقف على مدى ما نوظفه بنجاح من المفاهيم والمناهج العلمية المعاصرة» نحن والتراث
ويقـول أيضا: «ونحن نعتقد أنه ما لم نمارس العقلانية في تراثنا، ومالم نفضح أصـول الاستـبداد ومظاهره في هذا التراث، فإننا لن ننجح في تأسيس حداثة خاصة بنا. حداثة ننخرط بها ومن خلالها في الحداثة المعاصرة “العالمية”، كفاعلين وليس كمجرد منفعلين»نحن والتراث
و يرى الأستاذ الجابري أن تاريخنا الثقافي لم يكتب بعد، وبتعبير آخر؛ لم يدون بطريقة مفيدة وايجابية، أي نقدية وعقلانية. ومن هنا فهو يرى أنه إذا أردنا أن نعيد كتابة تاريخنا الثقافي بصورة عقلانية وبروح نقدية، فلا سبيل إلى ذلك سوى استعمال وتوظيف المناهج والمفاهيم العلمية المعاصرة، بمعنى أنه يستحيل علينا فهم ذاتيتنا وتراثنا مالم نستعمل “نظارة” غيرنا.
وهنا دعوة صريحة من المفكر الجابري لضرورة استعمال المنهج ابستمولوجي لفهم أنفسنا من خلال النظر لتاريخنا برؤية نقدية تأسيسة خاضعة لمنطق الشك والتمحيص و النقد لا منطق الإتباع و التقليد و ان نعيش حاضرنا لأنفسنا و أن يكون لحظة متحركة و تأسيسة للمستقبل عبر تحديد أولوياتنا الوطنية و القومية والإنسانية و الإبتعاد عن كل أشكال التفكير داخل زاوية السجن التراثي أو الفكري الضيق و التوجه بصورة جدية و علمية نحو عقلنة الفكر و الآيديولوجيا وبالتالي تحرر الإنسان كونه كائن العقل و الفكر